فصل: الآية رقم ‏(‏144 ‏:‏ 148‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏98 ‏:‏ 99‏)‏

‏{‏ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون

‏.‏ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ‏}‏

هذا تعنيف من اللّه تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات اللّه وصدهم عن سبيل اللّه مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من اللّه، وقد توعدهم اللّه على ذلك، وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومعاملتهم الرسول المبشر بالتكذيب والجحود والعناد، فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون، أي وسيجزيهم على ذلك‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏100 ‏:‏ 101‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ‏.‏ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ‏}‏

يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب، الذي يحسدون المؤمنين على ما آتاهم اللّه من فضله، وما منحهم من إرسال رسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم حسداً من من عند أنفسهم‏}‏ الآية، وهكذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه وفيكم رسوله‏}‏ يعيني أن الكفر بعيد منكم - وحاشاكم منه - فإن آيات اللّه تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم لا تؤمنون باللّه والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين‏}‏ وكما جاء في الحديث أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه يوماً ‏(‏ أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ الملائكة، قال‏:‏ ‏(‏وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم‏)‏، قالوا‏:‏ فنحن، قال‏:‏ ‏(‏وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم‏)‏، قالوا‏:‏ فأي الناس أعجب إيماناً‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها‏)‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعتصم باللّه فقد هدي إلى صراط مستقيم‏}‏، أي ومع هذا فالاعتصام باللّه والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعددة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد وحصول المراد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏102 ‏:‏ 103‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

‏.‏ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ‏}‏

عن عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ‏{‏اتقو اللّه حق تقاته‏}‏ قال‏:‏ أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وروي مرفوعاً عن عبد اللّه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اتقو اللّه حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى‏)‏ ‏"‏رواه الحاكم في المستدرك وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، قال ابن كثير‏:‏ والأظهر أنه موقوف‏"‏وروي عن أنس أنه قال‏:‏ لا يتقي اللّه العبدُ حق تقاته حتى يخزن لسانه، وقد ذهب سعيد بن جبير وابو العالية إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقو اللّه ما استطعتم‏}‏ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقو اللّه حق تقاته‏}‏ قال‏:‏ لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏، أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه، أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذاً باللّه من خلاف ذلك‏.‏

روى الإمام أحمد عن مجاهد‏:‏ أن الناس كانوا يطوفون بالبيت وابن عباس جالس معه محجن عصا منعطفة الرأس فقال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم‏(‏‏!‏‏؟‏ ‏"‏رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة‏"‏

وقال الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن عمرو قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه‏)‏ وفي الحديث الصحيح عن جابر قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللّه عزّ وجلّ‏)‏ وعن أنَس قال‏:‏ كان رجل من الأنصار مريضاً فجاءه النبي صلى اللّه عليه وسلم يعوده فوافقه في السوق فسلم عليه، فقال له‏:‏ ‏(‏كيف أنت يا فلان‏)‏‏؟‏ قال بخير يا رسول اللّه أرجو اللّه وأخاف ذنوبي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه اللّه ما يرجو وآمنه مما يخاف‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ البزار والترمذي والنسائي‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصوموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا‏}‏ قيل‏:‏ ‏{‏بحبل اللّه‏}‏ أي بعهد اللّه كما قال في الآية بعدها‏:‏ ‏{‏ضربت عليه الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس‏}‏ أي بعهد وذمة، وقيل‏:‏ ‏{‏بحبل اللّه‏}‏ يعني القرآن كما في حديث الحارث الأوعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن‏:‏ ‏(‏هو حبل اللّه المتين وصراطه المستقيم‏)‏

وروى ابن مردويه عن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن هذا القرآن هو حبل اللّه المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالإجتماع والإئتلاف، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً‏:‏ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولَّاه اللّه أمركم، ويسخط لكم ثلاثاً‏:‏ قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة اللّه عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً‏}‏ إلى آخر الآية، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء اللّه بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال اللّه، متواصلين في ذات اللّه؛ متعاونين على البر والتقوى‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين والف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعاً ما ألفت بين قولبهم ولكن اللّه ألف بينهم‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم اللّه منها أن هداهم للإيمان‏.‏ وقد امتن عليهم بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضَّل عليهم في القسمة بما أراده اللّه، فخطيهم فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم اللّه بي ‏!‏‏!‏ وكنتم متفرقين فألفكم اللّه بي ‏!‏‏!‏ وعالة فأغناكم اللّه بي ‏!‏‏؟‏‏)‏ فكلما قال شيئاً قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أمنُّ‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره‏:‏ أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلاً من اليهود، مر بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الإتفاق والألفة، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم، ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا ونادوا بشعارهم، وطلبو أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول‏:‏ ‏(‏أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهرركم‏؟‏‏)‏ وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا، والقوا السلاح رضي اللّه عنهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏104 ‏:‏ 109‏)‏

‏{‏ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ‏.‏ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ‏.‏ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ‏.‏ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللهم فيها خالدون ‏.‏ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر اللّه في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء، وقال أبو جعفر الباقر، قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏الخير اتباع القرآن وسنتي‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه‏"‏والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الامة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏)‏

وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏:‏ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة‏"‏‏{‏ولا تكونوا كالذين تفروقا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏}‏ الآية‏.‏ ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين، في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم‏.‏

روى الإمام أحمد عن أبي عامر عبد اللّه بن يحيى قال‏:‏ حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله‏(‏ واللّه يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى اللّه عليه وسلم لَغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏}‏ يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسوّد وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما‏.‏ ‏{‏فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم‏}‏‏؟‏ قال الحسن البصري‏:‏ وهم المنافقون، ‏{‏فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏، وهذا الوصف يعم كل كافر، ‏{‏وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللّه هم فيها خالدون‏}‏ يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات اللّه نتلوها عليك‏}‏ أي هذه آيات اللّه وحججه وبيِّناته نتلوها عليك يا محمد ‏{‏بالحق‏}‏ أي نكشف ما الأمر عليه في الديا والآخرة، ‏{‏وما اللّه يريد ظلماً للعالمين‏}‏ أي ليس بظالم لهم، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور، لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي الجميع ملك له وعبيد له، ‏{‏وإلى اللّه ترجع الأمور‏}‏ أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏112‏)‏

‏{‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ‏.‏ لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ‏.‏ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‏}‏

يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم، قال البخاري‏:‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏، قال‏:‏ خير الناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، والمعنى‏:‏ أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تأمرون بالمعروف وتنهون عن النكر وتؤمنون باللّه‏}‏، قال الإمام أحمد‏:‏ قام رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو على المنبر فقال‏:‏ يا رسول اللّه أي الناس خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏خير الناس أقرأهم وأتقاهم للّه وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم‏)‏ وعن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ قال‏:‏ هم الذين هاجروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة‏.‏ والصحيح أنه هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الآخرى‏:‏ وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ أي خيارا ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ الآية‏.‏

وفي مسند أحمد وجامع الترمذي من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه عزّ وجلّ‏)‏ وهو حديث مشهور، وقد حسَّنه الترمذي، وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات، بنبيِّها محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، فإنه أشرف خلق اللّه وأكرم الرسل على اللّه، وبعثه اللّه بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏وجعلت أمتي خير الأمم‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب‏"‏

وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا‏:‏ عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً‏)‏، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه‏:‏ فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي ‏"‏رواه الإمام أحمد‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏عرضت عليّ الأمم بالموسم فراثت فراثت‏:‏ تأخرتعليّ أمتي، ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، قد ملؤوا السهل والجبل، فقال‏:‏ أرضيت يا محمد‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏)‏، فقام عكاشة بن محصن فقال‏:‏ يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏، فقام رجل آخر فقال‏:‏ أدع اللّه أن يجعلني منهم، فقال‏:‏ ‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏

حديث آخر‏:‏ قال الطبراني، عن عمران بن حصين قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عقاب‏)‏، قيل‏:‏ من هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏)‏

حديث آخر ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر‏)‏، قال أبو هريرة‏:‏ فقام عكاشة بن حصين الاسدي يرفع نمرة ثوب من صوف عليه، فقال‏:‏ يا رسول اللّه ‏:‏ ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اللهم اجعله منهم‏)‏، ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله، فقال‏:‏ ‏(‏سبقك بها عكاشة‏)

حديث آخر‏:‏ عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذا رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي؛ فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي‏:‏ انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي‏:‏ هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب‏)‏، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم‏:‏ فلعلهم الذين صحبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال بعضهم‏:‏ فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما الذي تخوضون فيه‏؟‏‏)‏ فأخبروه، فقال‏:‏ ‏(‏هم الذي لا يرقون ولا يستقرون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏)‏، فقام عكاشة بن محصن فقال‏:‏ ادع اللّه أن يجعلني منهم، قال‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏، ثم قام رجل آخر فقال‏:‏ ادع اللّه أن يجعلني منهم، قال‏:‏ ‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏ ‏"‏رواه مسلم‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر بن عاصم في كتاب السنن، عن محمد بن زياد‏:‏ سمعت أبا أمامة الباهلي يقول‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات حَثَيات‏:‏ مفردها حَثْي وهو ما غرف باليد ربي عزّ وجلّ‏)‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو القاسم الطبراني‏:‏ عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن ربي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفاً، ثم يحثي ربي عزّ وجلّ بكفيه ثلاث حثيات‏)‏ فكبر عمر وقال‏:‏ إن السبعين الأول يشفعهم اللّه في آبائهم وأبنائهم وعشيرتهم، وأرجو أن يجعلني اللّه في إحدى الحثيات الأواخر‏.‏ قال الحافظ المقدسي في كتابه صفة الجنة‏:‏ لا أعلم لهذا الإسناد علة، واللّه أعلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ عن عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال‏:‏ أقبلنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد - أو قال بقديد - فذكر حديثاً وفيه ثم قال‏:‏ ‏(‏وعدني ربي عزّ وجلّ أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، وإني لأرجوا أن لا يدخلوها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة‏)‏ قال الضياء‏:‏ وهذا عندي على شرط مسلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنَس قال، قال رسول اللّه‏:‏ ‏(‏إن اللّه وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف‏)‏، قال أبو بكر رضي اللّه عنه‏.‏ زدنا يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏واللّه هكذا‏)‏، قال عمر‏:‏ حسبك يا أبا بكر، فقال أبو بكر‏:‏ دعني وما عليك أن يدخلنا اللّه الجنة كلنا‏.‏ قال عمر‏:‏ إن اللّه إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحد، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏صدق عمر‏)‏ هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق‏.‏ قال الضياء‏:‏ وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني عن قتادة عن أنَس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وعدني ربي ان يدخل الجنة من أمتي مائة ألف‏)‏، فقال له أبو بكر‏:‏ يا رسول اللّه زدنا، قال‏:‏ ‏(‏وهكذا‏)‏، وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك، قلت‏:‏ يا رسول اللّه زدنا، فقال عمر‏:‏ إن اللّه قادر على ان يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏صدق عمر‏)‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

حديث آخر‏:‏ عن أنَس، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً‏)‏، قالوا‏:‏ زدنا يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏لكل رجل سبعون ألفاً‏)‏، قالوا‏:‏ زدنا وكان على كثيب، فقالوا‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏هكذا‏)‏ وحثا بيديه، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ أّبْعد اللّهُ من دخل النار بعد هذا‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير‏:‏ وإسناده جيد‏.‏‏"‏

ومن الأحاديث  الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على اللّه عزّ وجلّ، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة ما ثبت في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة‏)‏ فكبرنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة‏)‏ فكبرنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏إني لأرجوا أن تكونوا شطر أهل الجنة‏)‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد بسنده عن ابن بريدة عن أبيه، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً‏)‏

حديث آخر قال الطبراني عن أبي هريرة‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏ثلة من الأولين وثلة من الآخرين‏}‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة‏)‏

حديث آخر ‏:‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا اللّه لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، الناس لنا في تبع، غداً لليهود، وللنصارى بعد غد‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير‏:‏ وإسناده جيد‏"‏

فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه‏}‏، فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح، كما قال قتادة‏:‏ بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في حجة حجها رأى من الناس دَعَة، فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏، ثم قال‏:‏ من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط اللّه فيها، رواه ابن جرير، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم اللّه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه‏}‏ الآية، ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب‏}‏ أي بما أنزل على محمد، ‏{‏لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون‏}‏ أي قليل منهم من يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسوق والعصيان‏.‏

ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين، ومبشراً لهم‏:‏ أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون‏}‏، هكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم اللّه وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم اللّه، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى بن مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس‏}‏، أي ألزمهم اللّه الذلة والصغار أينما كانوا فلا يؤمنون ‏{‏إلا بحبل من اللّه‏}‏ أي بذمة من اللّه وهو عقد الذمة لهم، وضربت الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة، ‏{‏وحبل من الناس‏}‏ أي أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس‏}‏ أي بعهد من اللّه وعهد من الناس، وقوله‏:‏ ‏{‏وباءوا بغضب من اللّه‏}‏ أي ألزموا، فالتزموا بغضب من اللّه وهم يستحقونه، ‏{‏وضربت عليهم المسكنة‏}‏ أي ألزموها قدراً وشرعاً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حق‏}‏ أي إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد، فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلاً بذل الآخرة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏ أي إنما حملهم على الكفر بآيات اللّه وقتل رسول اللّه - وقُيِّضوا لذلك - أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر اللّه والغشيان لمعاصي اللّه والاعتداء في شرع اللّه، فعياذاً بالله من ذلك، واللّه عزّ وجلّ المستعان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏113 ‏:‏ 117‏)‏

‏{‏ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ‏.‏ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ‏.‏ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ‏.‏ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏.‏ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ‏}‏

المشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام، و أسد بن عبيد و ثعلبة بن شعبة وغيرهم، أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء‏}‏ أي ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏ أي قائمة بأمر اللّه مطيعة لشرعه، متبعة نبي اللّه فهي قائمة يعني مستقيمة، ‏{‏يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون‏}‏ أي يقيمون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم، ‏{‏يؤمنون بالله واليوم الآخر يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين‏}‏، وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة ‏{‏وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه‏}‏ الآية، ولهذا قال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏وما يفعلا من خير فلن يُكْفروه‏}‏ أي لا يضيع عند اللّه بل يجزيهم به أوفر الجزاء، ‏{‏واللّه عليم بالمتقين‏}‏ أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ مخبراً عن الكفرة المشركين بأنه ‏{‏لن يغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً‏}‏ أي لا ترد عنهم بأس اللّه ولا عذابه إذا أراده بهم، ‏{‏وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ثم ضرب مثلاً لا ينفقه الكفار في هذه الدار فقال‏:‏ ‏{‏مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيه صر‏}‏ أي برد شديد قاله ابن عباس، وقال عطاء‏:‏ برد وجليد، ‏{‏فيها صر‏}‏ أي نار وهو يرجع إلى الأول، فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يحرق الشيء بالنار، ‏{‏أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته‏}‏ أي فأحرقته يعني بذلك الصعقة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده فدمرته، وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع، فذهبت به وأفسدته فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه، فكذلك الكفار يمحق اللّه ثواب أعمالهم في هذه الدنيا كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه، وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس ‏{‏وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏118 ‏:‏ 120‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ‏.‏ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ‏.‏ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ‏}‏

يقول تبارك وتعالى ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً، أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة؛ ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏ أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره، وقد روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما بعث اللّه من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان‏:‏ بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه اللّه ‏)

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قيل لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏:‏ إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً‏!‏ فقال‏:‏ قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين‏.‏ ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم‏}‏ أي تمنوا وقوعكم في المشقة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر‏}‏ أي قد لاح عل صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ها أنتم أولاء تحبوهم ولا يحبونكم‏}‏ أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك، وهم لا يحبونكم لا باطناً ولا ظاهراً، ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ أي ليس عندكم من شيء منه شك ولا ريب، وهم عندهم الشك والريب والحيرة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، ‏{‏وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ والأنامل أطراف الأصابع قاله قتادة‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ ‏)‏وما حملت كفاي أنملي العشرا‏)‏

وقال ابن مسعود والسدي‏:‏ الأنامل الأصابع، وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ وذلك أشد الغيظ والحنق، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل موتوا بغيظكم إن اللّه عليم بذات الصدور‏}‏ أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن اللّه متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومعلي كلمته ومظهر دينه، فموتوا أنتم بغيظكم، ‏{‏إن اللّه عليم بذات الصدور‏}‏ أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها‏}‏ وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء - لما للّه تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم اُحُد - فرح المنافقون بذلك‏.‏ قال اللّه تعالى مخاطباً للمؤمنين‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتَّقوا لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ الآية، يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على اللّه، الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشا لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ومن توكل عليه كفاه‏.‏

ثم شرع تعالى في ذكر قصة أُحُد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين والتمييز بين المؤمنين والنافقين، وبيان الصابرين فقال تعالى‏:‏

 الآية رقم ‏(‏121 ‏:‏ 123‏)‏

‏{‏ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ‏.‏ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ‏.‏ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ‏}‏

المراد بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور، وعن الحسن البصري‏:‏ المراد بذلك يوم الأحزاب‏.‏ وكانت وقعة أُحُد يوم السبت من شوّال سنة ثلاث من الهجرة، قال قتادة‏:‏ لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال، وقال عكرمة‏:‏ يوم السبت للنصف من شوّال فاللّه أعلم، وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر، وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان‏:‏ ارصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك، فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أُحُد تلقاء المدينة، فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الجمعة فلما فرغ منها استشار الناس‏:‏ ‏(‏أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة‏)‏‏؟‏ فأشار عبد اللّه بن أُبي بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبينان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروح إليهم‏.‏ فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلب لامته وخرج عليهم، وقد ندم بعضهم، وقالوا‏:‏ لعلنا استكرهنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن شئت أن نمكث، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم اللّه له‏)‏، فسار صلى اللّه عليه وسلم في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط رجع عبد اللّه بن أُبي بثلث الجيش مغضباً لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه‏:‏ لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم ولكنا لا نراكم تقاتلون، واستمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلىأحد، وقال‏:‏ ‏(‏لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال‏)‏

وتهيأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمَّر على الرماة عبد اللّه بن جبير أخا بني عمرو ابن عوف، والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال لهم‏:‏ ‏(‏انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم‏)‏، وظاهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، وأجاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض الغلمان يومئذ وأخر آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين وتهيأ قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائة فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار، ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء اللّه تعالى‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال‏}‏ أي تنزلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم ‏{‏واللّه سميع عليم‏}‏ أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ الآية قال البخاري، قال عمر‏:‏ سمعت جابر بن عبد اللّه يقول‏:‏ فينا نزلت‏:‏ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ الآية قال‏:‏ نحن الطائفتان بنو حارثة و بنو سلمة ، وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه وليهما‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم اللّه ببدر‏}‏ أي يوم بدر، وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز اللّه فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فارسان وسبعون بعيراً والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدوّ يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة، والخيول المسوَّمة والحلي الزائد‏.‏ فأعز اللّه رسوله وأظهر وحيه وتنزيله وبيّض وجه النبي وقبيله وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين، ‏{‏ولقد نصركم اللّه ببدر وأنم أذلة‏}‏ أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند اللّه لا بكثرة العَدَد والعُدَد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً‏}‏ وقال الإمام أحمد، عن سماك قال‏:‏ سمعت عياضاً الأشعري قال‏:‏ شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء‏.‏ وقال عمر‏:‏ إذا كان قتالاً فعليكم أبو عبيدة، قال‏:‏ فكتبنا إليه أنه قد جأش إلينا الموت واستمددناه، فكتب إلينا إنه قد جائني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصراً، وأحصن جنداً، اللّه عزّ وجلّ فاستنصروه، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد نصر في يوم بدر في أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني‏.‏ قال‏:‏ فقاتلناهم فهزمناهم أربع فراسخ، قال‏:‏ وأصبنا أموالا فتشاورنا‏.‏ فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة‏.‏ و بدر محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها منسوبة إلى رجل حفرها يقال له بدر بن النارين قال الشعبي‏:‏ بدر بئر لرجل يسمى بدراً، وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا اللّه لعلكم تشكرون‏}‏ أي تقومون بطاعته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏124 ‏:‏129‏)‏

‏{‏ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ‏.‏ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ‏.‏ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ‏.‏ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ‏.‏ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ‏}‏

اختلف المفسرون في هذا الوعد‏:‏  هل كان يوم بدر أو يوم أُحُد‏؟‏ على قولين، أحدهما‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏إذ تقول للمؤمنين‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم اللّه ببدر‏}‏ واختاره ابن جرير‏.‏ قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إذا تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة‏}‏، قال‏:‏ هذا يوم بدر‏.‏ ووقال الربيع بن أنَس‏:‏ أمد اللّه المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف، فإن قيل‏:‏ فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله في قصة بدر‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين - إلى قوله - إن اللّه عزيز حكيم‏}‏‏؟‏ فالجواب أن التنصيص على الألف ههنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله‏:‏ ‏{‏مردفين‏}‏ بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم، وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، واللّه أعلم

القول الثاني‏:‏ إن هذا الوعد متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال‏}‏ وذلك يوم أحُد، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك، لكن قالوا‏:‏ لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لأن المسلمين فروا يومئذ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى إن تصبروا تتقوا‏}‏ يعني تصبروا على مصابرة عدوكم، تتقوني وتطيعوا أمري، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأتوكم من فورهم هذا‏}‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ أي من وجههم هذا، وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ أي من غضبهم هذا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من سفرهم هذا، ويقال‏:‏ من غضبهم هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمددكم ربكم بخمسة آلالف من الملائكة مسومين‏}‏ أي معلمين بالسيما‏.‏ عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضاً في نواصي خيولهم‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الّله عنه في هذه الآية ‏{‏مسوّمين‏}‏ قال‏:‏ بالعهن الأحمر، وقال ابن عباس رضي اللّه عنه‏:‏ أتت الملائكة محمداً صلى اللّه عليه وسلم مسوّمين بالصوف فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف، وقال قتادة وعكرمة‏:‏ ‏{‏مسومين‏}‏ أي بسيما القتال‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به‏}‏ أي وما أنزل اللّه الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند اللّه الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال‏:‏ ‏{‏ذلك ولو يشاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبو بعضكم ببعض‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر

إلا من عند اللّه العزيز الحكيم‏}‏ أي هو ذو العزة التي لا ترام، والحكمة في قدره والأحكام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليقطع طرفاً من الذين كفروا‏}‏ أي أمركم بالجهاد والجلاد لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين، فقال‏:‏ ‏{‏ليقطع طرفاً‏}‏ أي ليهلك أمة ‏{‏من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا‏}‏ أي يرجعوا ‏{‏خائبين‏}‏، أي لم يحصلوا على ما أملوا، ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏، أي بل الأمر كله إليّ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم ولكنَّ اللّه يهد من يشاء‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء‏}‏ وقال محمد بن إسحاق في قوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم‏.‏ ثم ذكر بقية الأقسام فقال‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة ‏{‏أو يعذبهم‏}‏ أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فإنهم ظالمون‏}‏ أي يستحقون ذلك، قال البخاري‏:‏ عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ الآية‏.‏ وقال البخاري أيضاً، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعوا على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع وربما قال، إذا قال‏:‏ ‏(‏سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد‏:‏ اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين‏.‏ اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏ يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر‏:‏‏(‏اللهم العن فلاناً وفلاناً‏)‏ لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ الآية‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ عن أنَس رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أَحُد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال‏:‏ ‏(‏كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجلّ‏)‏ فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون‏}‏ ‏"‏أخرجه مسلم والإمام أحمد في المسند‏"‏وقال ابن جرير‏:‏ عن قتادة قال‏:‏ أصيب النبي يوم أحد وكسرت رباعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه، فافاق وهو يقول‏:‏ ‏(‏كيف بقوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ‏؟‏‏)‏ فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ الآية‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، أي الجميع ملك له، وأهلهما عبيد بين يديه، ‏{‏يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏ أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ‏{‏واللّه غفور رحيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏130 ‏:‏136‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ‏.‏ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ‏.‏ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ‏.‏ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ‏.‏ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ‏.‏ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ‏.‏ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ‏}‏

يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدين‏:‏ إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده في القدر، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً، وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا اللّه والرسول لعلكم ترحمون‏}‏ ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين‏}‏ أي كما أعدت النار للكافرين‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن في معنى قوله‏:‏ ‏{‏عرضها السموات والأرض‏}‏ تنبيهاً على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة‏:‏ ‏{‏بطائنها من إستبرق‏}‏ أي فما ظنك بالظهائر، وقيل‏:‏ بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش، والشي المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح‏:‏‏(‏إذا سألتم اللّه الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن‏)‏ وهذه الآية كقوله في سورة الحديد‏:‏ ‏{‏سابقوا إلى غفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض‏}‏ الآية‏.‏ وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار‏؟‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سبحان اللّه فأين الليل إذا جاء النهار‏)

وهذا يحتمل معنيين، أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث شاء اللّه عزّ وجل، وهذا أظهر، الثاني‏:‏ أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها، كما قال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏كعرض السموات والأرض‏}‏ والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار، واللّه أعلم‏.‏

ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون في السراء والضراء‏}‏ أي في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية‏}‏، والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة اللّه تعالى والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس‏}‏، أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفو مع ذلك عمن أساء إليهم، وقد ورد في بعض الآثار‏:‏‏(‏ يقول تعالى يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏

وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس الشديد بالصُرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏وقال الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال‏:‏ ‏(‏اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، مالَكَ من مالِكَ إلا ما قدمت، وما لوارثك إلا ما أخرت‏)‏ قال، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما تعدون الصرعة فيكم‏!‏ قلنا الذي لا تصرعه الرجال، قال‏:‏ ‏(‏لا، ولكن الذي يملك نفسه عن الغضب‏)‏ قال، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أتدرون ما الرقوب‏)‏ قلنا الذي لا ولد له، قال‏(‏لا، ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده شيئاً‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأخرج البخاري النّص الأول منه‏"‏‏.‏

حديث آخرقال الإمام أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنَس عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه اللّه على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء‏)‏

حديث آخرعن أبي هريرة رضي اللّه عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ اللّه جوفه أمناً وإيماناً‏)‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند اللّه عز وجلّ، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والعافين عن الناس‏}‏ أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واللّه يحب المحسنين‏}‏ فهذا من مقامات الإحسان‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاث أقسم عليهن، ما نقص مال من صدقة، وما زاد اللّه عبداً بعفو إلاعزاً، ومن تواضع للّه رفعه اللّه ‏)‏ وروى الحاكم في مستدركه، عن أُبّي بن كعب، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ومن سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعطِ من حرمه، ويصلْ من قطعه‏)‏ وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول‏:‏ أين العافون عن الناس، هلموا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرىء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار‏.‏ قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن رجلاً أذنب ذنباً فقال‏:‏ رب إن أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ عبدي عمل ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب وياخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال‏:‏ رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى‏:‏ علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال‏:‏ رب إني عملت ذنباً فاغفر لي، فقال عزَّ وجلَّ‏:‏ علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال‏:‏ رب إني عملت ذنباً فاغفره فقال اللّه عزّ وجلّ عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء‏)‏ وعن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول الله صلى اللّه عليه وسلم حديثا نفعني اللّه بما شاء منه‏.‏ وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي اللّه عنه حدثني، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر اللّه عزّ وجلّ إلا غفر له‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأهل السنن وابن حبان‏"‏ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء‏)‏ عن أنَس رضي اللّه عنه قال‏:‏ بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ بكى‏.‏

وعن أبي بكر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما فإن إبليس قال‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار، فلم رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ أبو يعلى‏"‏وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قال إبليس‏:‏ يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللّه تعالى‏:‏ وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يغفر الذنوب إلا اللّه‏}‏ أي لا يغفرها أحد سواه، وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون‏}‏ أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى اللّه عزّ وجلّ عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود والترمذي والبزار‏"‏‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أن من تاب تاب اللّه عليه وهذا كقوله تعالى ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ومن يعلم سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ ونظائر هذا كثيرة جداً، ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به‏:‏ ‏{‏أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم‏}‏ أي جزاؤهم على هذه الصفات ‏{‏مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي من أنواع المشروبات، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها، ‏{‏ونعم أجر العاملين‏}‏ يمدح تعالى الجنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏137 ‏:‏143‏)‏

‏{‏ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ‏.‏ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ‏.‏ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ‏.‏ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ‏.‏ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ‏.‏ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ‏.‏ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏، أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بيان للناس‏}‏ يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم، ‏{‏وهدى وموعظة‏}‏ يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى لقلوبكم وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم‏.‏ ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أي لا تضعفوا بسبب ما جرى، ‏{‏ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون، ‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏}‏ أي إن كنتم قد أصبتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعدائكم قريب من ذلك من قتل وجراح، ‏{‏وتلك الأيام نداولها بين الناس‏}‏ أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم اللّه الذين آمنوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء ‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏}‏ يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته، ‏{‏واللّه لا يحب الظالمين* وليمحص اللّه الذين آمنوا‏}‏ أي يكفِّر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به‏.‏

وقوه تعالى‏:‏ ‏{‏ويمحق الكافرين‏}‏ أي فإنهم إذا ظفرا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تدخلو الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين‏}‏، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون‏}‏ الآية، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين‏}‏ أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى اللّه منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون‏}‏ أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمونون لقاء العدو، وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ يعني الموت شاهدتموه وقت حدِّ الأسنة واشتباك الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏144 ‏:‏ 148‏)‏

‏{‏ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ‏.‏ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ‏.‏ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ‏.‏ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ‏.‏ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ‏}‏

لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحُد وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان‏:‏ ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم‏:‏ قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول اللّه فشجه في راسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك - كما قد قص اللّه عن كثير من الأنبياء عليهم السلام - فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه‏.‏ قال ابن أبي نجيح عن أبيه‏:‏ إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له‏:‏ يا فلان أشعرت أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمداً قد قتل فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول فقد خلت من قبله الرسل‏}‏ ‏"‏رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة‏"‏ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف‏:‏ ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ أي رجعتم القهقرى، ‏{‏ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين‏}‏ أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حياً وميتاً، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن أن الصدّيق رضي اللّه عنه تلاهذه الآية لما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

عن عائشة رضي اللّه عنها أن أبا بكر رضي اللّه عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة‏:‏ فكشف عن وجهه ثم أكب عليه قبّله وبكى، ثم قال‏:‏ بأبي أنت وأمي واللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين‏:‏ أما الموتة التي كتب عليك فقد متها ‏"‏رواه البخاري‏"‏، وروى الزهري‏:‏عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال‏:‏ اجلس يا عمر، قال أبو بكر‏:‏ أما بعد من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - إلى قوله - وسيجزي اللّه الشاكرين‏}‏، قال‏:‏ فواللّه لكأن الناس لم يعلموا أن اللّه أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها‏.‏ وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال‏:‏ واللّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض‏.‏

وقال أبو القاسم الطبراني، عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أن علياً كان يقول في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ واللّه لا ننقلب على أعقابنا عبد إذا هدانا اللّه، واللّه لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، واللّه إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فم أحق به مني‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا ذبإذن اللّه كتاباً مؤجلاً‏}‏ أي لا يموت أحد إلا بقدر اللّه وحتى يستوفي المدة التي ضربها اللّه له، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كتاباً مؤجلاً‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وما يُعَمَّر من مُعَمَّرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتاب‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده‏}‏ وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام الإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، كما قال ابن أبي حاتم عن حبيب بن ظبيان‏:‏ قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي‏:‏ ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - ‏{‏ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه كتاباً مؤجلا‏}‏ ثم أقحم فرسه دجلة، فلما أقحم أقحم الناس، فلما رآهم العدوّ قالوا‏:‏ ديوان ‏.‏‏.‏‏.‏ فهربوا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها‏}‏ أي من كان عمله للدنيا فقط ناله منها ما قدره اللّه له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه اللّه منها وما قسم له في الدنيا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏وسنجزي الشاكرين‏}‏ أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم‏.‏ ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد، ‏{‏وكأين من نبيّ قالت مع ربيون كثير‏}‏ قيل معناه‏:‏ كم من نبي قبل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير، وهذا القول هو اختيار ابن جرير‏.‏ وقد عاتب اللّه بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل، فعذلهم اللّه على فرارهم وتركهم القتال فقال لهم‏:‏ ‏{‏أفإن مات أو قتل‏}‏، أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم ‏{‏وانقلبتم على أعقابكم‏}‏ وقيل‏:‏ وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير‏.‏

وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر، فإنه قال‏:‏ وكأين من نبي أصابه القتل ومع ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن اللّه وعن دينهم، وذلك الصبر ‏{‏واللّه يحب الصابرين‏}‏ فجعل قوله‏:‏ ‏{‏معه ربيون كثير‏}‏ حالاً، وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه، وله اتجاه لقوله‏:‏ ‏{‏فما وهنوا لما أصابهم‏}‏ الآية‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏قاتل معه ربيون كثير‏}‏ أي ألوف، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ الربيون الجموع الكثيرة، وقال الحسن‏:‏ ‏{‏ربيون كثير‏}‏، أي علماء كثير، وعنه أيضاً‏:‏ علماء صبر أي أبرار أتقياء، وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عزّ وجل قال‏:‏ ورد بعضهم عليه فقال‏:‏ لو كان كذلك لقيل الربيون بفتح الراء، وقال ابن زيد‏:‏ الربيون الأتباع والرعية والربانيون الولاة، ‏{‏فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللّه وما ضعفوا وما استكانوا‏}‏ قال قتادة‏:‏ ‏{‏وما ضعفوا‏}‏ بقتل نبيهم، ‏{‏وما استكانوا‏}‏ يقول‏:‏ فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي اللّه حتى لحقوا باللّه، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وما استكانوا‏}‏ تخشعوا، قال ابن زيد‏:‏ وما ذلوا لعدوهم، ‏{‏واللّه يحب الصابرين* وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ أي لم يكن لهم هجير أي دأب وعادة وما يكثر على اللسان جريانهإلا ذلك، ‏{‏فآتاهم اللّه ثواب الدنيا‏}‏ أي النصر والظفر والعاقبة ‏{‏وحسن ثواب الآخرة‏}‏ أي جمع لهم ذلك مع هذا ‏{‏واللّه يحب المحسنين‏}‏‏.‏